وبحسب تحقيق مطوّل نشره موقع "إندبندنت عربية" وتابعته "النهرين"، في قرية دوايمة وبعد احتلالها وصلت السرية "89"، لم تكن هناك مقاومة، لكن عناصر السرية قتلوا 80 إلى 100 عربي بينهم نساء وأطفال. في مكان آخر أحد القادة أمر خبير متفجرات بإدخال عجوزتين عربيتين إلى بيت وتفجيره عليهما. جندي آخر تباهى بأنه اغتصب عربية ثم أطلق النار عليها. في حالة أخرى أمر الجنود امرأة عربية كانت تحمل رضيعاً عمره يوم واحد في حضنها بتنظيف المكان الذي يأكل فيه الجنود بعد يوم أو يومين عملت في خدمتهم أطلقوا النار عليها وعلى رضيعها.
هذه الشهادة غير منقولة عن فلسطيني عايش أحداث عام 1948، ولا عن باحث فلسطيني يعد بحثاً عن تلك الفترة، إنما هي شهادة من أرشيف حرب 1948 لأحد الجنود الإسرائيليين التي بعثها برسالة إلى رئيس تحرير صحيفة "عل همشمار" أليعازر بيري (صحيفة شهرية يهودية تابعة لحزب العمال "هشومير هتسعير")، وكشف عنها مدير أرشيف "يد يعاري"، دودو أميتي، بعدما وقعت بين يده خلال تفريغه رسائل من الأرشيف، وجاءت تحت عنوان "مجرد عرب شيوخ ونساء".
عشرات الشهادات
هي شهادة من عشرات الشهادات التي كشف عنها من الأرشيف الإسرائيلي لتلك الفترة بعضها كان موثقاً ضمن الوثائق السرية، وأخرى تمت الموافقة على الكشف عنها، في وقت هناك فيه العشرات من وثائق تلك الفترة ما زالت قيد السرية ويرفض مسؤول الأرشيف الإسرائيلي الكشف عنها.
هذا الرفض أثار باحثين يجرون أبحاثاً حول حقيقة ما جرى خلال حرب 1948، ويعدون هذه الأيام التماساً لتقديمه للمحكمة الإسرائيلية العليا للسماح لهم بكشف هذه الوثائق، وتحديداً كشف تقرير "شابيرا"، الذي يتضمن نتائج تحقيقات وجمع شهادات عن تلك الفترة. وعلم أن عدم الكشف يأتي تحت ذريعة الخطر على أمن إسرائيل، اليوم بالذات، والخطر على حياة أشخاص. هكذا قال بصورة واضحة مدير معهد "عكيفوت" الباحث ليئور يافنيه، خلال حديث في فيلم وثائقي لقناة "كان" الإسرائيلية، وأثار نقاشاً إلى حد مطالبة وزراء وأعضاء كنيست بإغلاق القناة أو التقليص من موازنتها، لما كشفه من وثائق، بحسبهم خطرة، وتمس أمن إسرائيل وتشوه صورتها في العالم وسمعة الجيش.
وفق قانون الأرشيف الإسرائيلي يسمح بالكشف عن الوثائق في الأرشيف بعد مرور 50 عاماً عليها، إلا أن تقرير "شابيرا"، الذي أثير حوله نقاش إسرائيلي بعد الكشف عن وثائق جديدة ما زال ممنوعاً للنشر، علماً أن عديداً من الوثائق التي كشفت، وصفها متحدثون بالمرعبة، وتكشف كيف أن عديداً من الجرائم لم تكن بمبادرة عناصر أو مجموعة ممن شاركوا في القتال، إنما بأوامر مسؤولين في مناصب عسكرية، وفيها أصدروا أوامرهم في قتل وتشريد الفلسطينيين.
في نقاش إسرائيلي آخر، هذه الأيام بالذات، إذ يواجه الفلسطينيون في غزة والضفة خطط التهجير، كشف معهد "عكيفوت" لبحث الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، عن تفاصيل جديدة قبل وبعد حرب عام 1967 حول الممارسات الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من الأراضي المحتلة.
يأتي هذا الكشف في وقت أصبح آلاف سكان المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية مهجرين، والمخيمات شبه فارغة من دون أمل بعودتهم إلى بيوتهم. وما كشف عنه يشير إلى أن ما يعلن وينفذ على أرض الواقع من عمليات تهجير للفلسطينيين هي خطط تبحث في الأروقة الإسرائيلية منذ عشرات السنين، ومع الوقت يتم تطويرها وفق التطورات والأهداف الجديدة والمستحدثة لإسرائيل.
الخشية من تحمل الحكومة المسؤولية
كثير مما كشفت عنه الوثائق حول الجرائم المرتكبة في حق الفلسطينيين سبق وأن سمعها فلسطينيون عايشوا تلك الفترة وتمت أرشفتها ضمن المجازر التي ارتكبت في حق الفلسطينيين وتهجيرهم، ومعروف عن مجازر ارتكبت قتل فيها جميع من وُجدوا في القرية، وهذه كان من الصعب أرشفتها بدقة. في هذه الوثائق يتحدث جنود ومواطنون إسرائيليون عما سماها البعض "جرائم حرب" بحق الفلسطينيين من دون تمييز بين مقاتل وشاب ومسن وامرأة وأطفال، "كلما كان عدد العرب أقل كان أفضل"، من هذا المنطلق كان الإسرائيليون يقتلون ويهجرون الفلسطينيين.
في وثيقة تتضمن شهادة لمدير دائرة أراضي إسرائيل، في حينه، يوسف نحماني، نقل عما أبلغه عنه مانو فريدمان، وهو ضابط إسرائيلي "في صفصاف، بعدما دخلنا القرية ورفع أهلها الراية البيضاء، جمعوا الرجال وحدهم والنساء وحدهن، ربطوا أيدي الفلاحين وأطلقوا النار عليهم وقتلوهم، ودفنوهم في حفرة واحدة. وأيضاً اغتصبوا بعض نساء القرية. في بلدة الخالصة، حيث رفعوا الراية البيضاء، نفذوا أيضاً مجزرة قتلوا فيها رجالاً ونساءً".
"أمر مرعب"
"ما كُشف عنه من مجازر ارتكبها رجالنا تسمى جرائم حرب"، قال بيني موريس، وهو مستشرق وباحث في مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، مضيفاً "ليس لديَّ تفسير لهذا، إنه أمر مرعب. لا يوجد تفسير لماذا كان هناك تركيز كبير جداً لتنفيذ المجازر في الجليل، كانت هناك مجازر منظمة بأوامر، وليس مجرد أشخاص فقدوا أعصابهم وبدأوا يطلقون النار على القرويين، بل تلقوا أمراً بإطلاق النار. ليس واضحاً من أي مستوى جاءت الأوامر. قائد كتيبة، نائب قائد كتيبة، قائد سرية، قائد فصيلة، لكن المتوقع من قائد سرية فما فوق، كما تبين أن المجازر نفذت على يد وحدات من ثلاثة ألوية، ليس من لواء معين أو كتيبة معينة، بل جنود من ثلاثة ألوية: كرميلي، اللواء 7، وأيضاً غولاني، الذين شاركوا في عملية حيرام". وفي انتقاده لمنع نشر تقرير "شابيرا" قال موريس "وفق ما بات مفهوماً، أعتقد أنه إذا اكتشفت أمور من هذا المجال في العالم، فإنها تضر بصورة الدولة، لكن دولة طبيعية وديمقراطية من المفترض أن تعرف ما هو ماضيها الحقيقي، وهذا أهم من الضرر الجانبي الذي يسببه فتح الوثائق والأرشيفات".
يورام روزنتسفيع مسؤول سابق عن قسم كشف مواد سرية، الذي سبق واطلع على تقرير "شابيرا"، يوصي اليوم، وهو خارج المهمة، بعدم نشر التقرير، وبحسبه فإن النشر سيلحق ضرراً كبيراً بأمن الدولة وعلاقاتها الخارجية، وأيضاً أمن الجمهور مع إمكان تشكيل خطر على حياة البعض. ويقول أمام عدسة الكاميرا "من وجهة نظري تقرير شابيرا مختلف عن وثائق موازية له تم نشرها. هناك فرق بين إشاعات، ذكريات، أبحاث أكاديمية، واقتباسات، وبين وثيقة رسمية لجهة حكومية، فهذه يمكن أن تشكل نوعاً من تحمل المسؤولية من قبل حكومة إسرائيل عن أفعال مختلفة، أو عن واقع معين".
حديث روزنتسفيع حفز باحثين لاتخاذ متطلبات لضمان كشف ما تبقى من وثائق في تقرير "شابيرا"، والجميع يتساءلون ما الذي يخفيه هذا التقرير من جرائم من شانها أن تشكل، اليوم، بالذات، خطراً على أمن إسرائيل؟
ما هو تقرير "شابيرا"؟
في إحدى الوثائق التي كتبها ديفيد بن غوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل)، الذي تم تعريفه عن تلك الفترة "رئيس حكومة الشعب الموقتة"، قال إنه بعد الكشف عن حالات ذبح عرب واغتصاب وسرقات طلب من يعقوب شابيرا (المستشار القضائي لأول حكومة إسرائيلية) أن يأخذ على عاتقه التحقيق ويعد تقريراً كاملاً حول هذه الاعتداءات.
يعقوب شابيرا أعد تقريراً بعدما أجرى تحقيقات، واستمع إلى شهود عيان من مسؤولين في الجيش وسياسيين، ومن جنود، وقد نوقش آنذاك التقرير، وتقرر أن يبقى ضمن الملفات "السرية جداً"، وما زال حتى اليوم.
وقال الباحث يافنيه إننا نتحدث عن تقرير "كلنا نعلم بوجوده ولكن، كما يبدو حتى اليوم، لم يره أو يقرأه أي باحث، بل لم تتوفر طريقة للوصول إلى محتوى هذا الملف".
من جهته قال يعقوب نزوبيك، الذي شغل منصب مسؤول الأرشيف حتى عام 2011، إنه خلال عمله رفض الكشف عن التقرير، واليوم، أيضاً يرون خطورة في الكشف عن هذا التقرير "إذا كشف للجمهور سيسبب ضرراً للدولة، هذا ما يراه أكثر من مسؤول مطلع على التقرير، إذ يرون أنه سيلحق ضرراً أمنياً، أو ضرراً في العلاقات الخارجية، أو ضرراً من انتفاضة السكان العرب في دولة إسرائيل الذين سيغضبون إذا عرفوا ما المكتوب في الملف، أو أموراً كهذه".
بيني موريس، هو الآخر، بذل جهوداً وما زال لكشف تقرير "شابيرا"، وبين الوثائق التي كشف عنها كانت وثيقة رسمية تتحدث عن مئات القتلى الفلسطينيين في مجازر عدة نفذت في 12 قرية في أقل من أسبوعين. قريباً سينشر كتاباً يكشف فيه عن كثير من التفاصيل والحقائق التي تسترت وما زالت إسرائيل تتستر عليها من جرائم القتل، بينما المسؤولون، وبحسب توقعات العديد، لن يسمحوا بنشر تقرير "شابيرا"، وغير متوقع أن تقبل المحكمة أي التماس يقدم إليها طالما رفض النشر يأتي تحت ذريعة "الحفاظ على أمن الدولة".