متابعات النهرين
أخيراً، حزمت فرنسا أمرها، وقررت
التخلي عن اللغة الدبلوماسية إزاء ما ترتكبه إسرائيل يومياً من انتهاكات للقوانين
الإنسانية في غزة، إنْ من خلال عمليات القصف المتواصلة التي تقتل العشرات من
المدنيين، غالبيتهم من النساء والأطفال، أو تجويع 2.1 مليون شخص، فضلاً عن استمرار
العمليات العسكرية واسعة النطاق، وتقطيع أوصال القطاع والسعي للسيطرة عليه
واحتلاله بكليته.
وما يثير حنق باريس ومعها العديد من
الدول الأوروبية أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تصم آذانها عن
كل الدعوات التي تحضها على وضع حد لهذه الحرب المدمرة والسماح بإيصال المساعدات
الإنسانية لسكان غزة بعد أن منعت دخول أي شاحنة، مهما كانت حاملة، منذ الثاني من
مارس (آذار) الماضي، فيما المنظمات الدولية تنبه للمجاعة المستشرية بين السكان
ولاستحالة الوصول إلى المستشفيات التي لا تتردد القوات الإسرائيلية عن استهدافها
مباشرة.
وإذا كانت باريس قد قررت خلع القفازات
الدبلوماسية، فلأن الرأي العام الفرنسي، بما فيه مكسوب الولاء لإسرائيل، لم يعد
يتقبل الممارسات الإسرائيلية، لا بل إن أوساط الجالية اليهودية نفسها أخذت تنتقد
إسرائيل بعد أن التزمت التضامن معها والصمت عما ترتكبه منذ أكتوبر (تشرين الأول)
2023.
وظهرت في الآونة الأخيرة دعوات في
الصحافة الفرنسية لمفكرين وأدباء وفنانين من كل التوجهات لرفض السكوت عما يجري.
كذلك، برزت مخاوف من أن تجد فرنسا ودول أوروبية أخرى أمام المحكمة الجنائية
الدولية بسبب ما يمكن اعتباره «تواطؤاً في ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية»، علماً
بأن العديد من الدول الأوروبية ما زالت تصدر الأسلحة والذخائر لإسرائيل.
بناءً على ما سبق، ووفق ما تقوله مصادر
سياسية في باريس، فإن الحكومة الفرنسية قررت تغيير لغتها واللجوء إلى التنبيه
والتحذير والتهديد.
وبعد أن كان الرئيس الفرنسي إيمانويل
ماكرون أكد سابقاً أن بلاده يمكن أن تعترف بالدولة الفلسطينية بمناسبة المؤتمر
الذي ستشارك في رئاسته مع المملكة السعودية في الأمم المتحدة ما بين 17 و20 يونيو
(حزيران) ستترأسه لغرض إحياء الحل السلمي للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على أساس
حل الدولتين، فإن وزير الخارجية جان نويل بارو جزم، صباح الثلاثاء، في حديث لإذاعة
«فرانس أنتير»، أن بلاده عازمة، بشكل نهائي، على الاعتراف بدولة فلسطين.
وقال بارو ما حرفيته: «لا يمكننا أن
نترك لأطفال غزة إرثاً من العنف والكراهية. لذلك، يجب أن يتوقف كل هذا، ولهذا
السبب نحن عازمون على الاعتراف بدولة فلسطين»، مضيفاً: «أنا أعمل على هذا (الأمر)
بفاعلية لأننا نريد المساهمة في التوصل إلى حل سياسي يصب في مصلحة الفلسطينيين
ولكن أيضاً في صالح أمن إسرائيل».
وكانت باريس تقول دوماً إن الاعتراف
المذكور «لا يعد مشكلة بالنسبة إليها لكنها تريد اختيار الوقت المناسب». والحال أن
تخوفها وتخوف الكثيرين أنه في حال استمرت الأمور على هذا المنوال، إن في غزة أو في
الضفة الغربية، فلن تكون هناك دولة للاعتراف بها، خصوصاً في ظل اقتناع صريح بأن
إسرائيل عازمة على ضم الضفة الغربية والسيطرة مجدداً على غزة.
تريد باريس أيضاً أن تلعب بادرتها دور
«القاطرة» التي يمكن أن تجر دولاً أخرى، أوروبية أو غير أوروبية، للاحتذاء بها
لجهة الاعتراف المشار إليه، ويبدو أنها نجحت في استقطاب بريطانيا وكندا غير
المعروفتين أساساً بتأييدهما للفلسطينيين.
وبرز في البيان الثلاثي الذي صدرعن
قادة الدول الثلاث (فرنسا وبريطانيا وكندا)، حيث ورد في فقرته الأخيرة ما يلي:
«نواصل العمل مع السلطة الفلسطينية والشركاء الإقليميين وإسرائيل والولايات
المتحدة من أجل التوصل إلى توافق بشأن الترتيبات المستقبلية لقطاع غزة، استناداً
إلى الخطة العربية. ونؤكد على الدور المهم الذي سيلعبه المؤتمر رفيع المستوى حول
حل الدولتين، الذي سيُعقد في الأمم المتحدة في شهر يونيو، من أجل التوصل إلى توافق
دولي حول هذا الهدف. نحن عازمون على الاعتراف بدولة فلسطينية كإسهام في تحقيق حل
الدولتين، ونحن مستعدون للعمل مع الآخرين لتحقيق هذه الغاية».
لم تكتف الدول الثلاث بما سبق بل عمدت
للمرة الأولى إلى توجيه تهديد مباشر للحكومة الإسرائيلية لدفعها لوضع حد لعملياتها
العسكرية.
وجاء في بيانها: «لن نقف مكتوفي الأيدي
بينما تواصل حكومة نتنياهو هذه الأفعال الفاضحة. إذا لم تنه إسرائيل هجومها
العسكري الجديد، ولم ترفع قيودها عن المساعدات الإنسانية، فسنتخذ إجراءات ملموسة
إضافية رداً على ذلك».
وأضاف البيان أن «رفض الحكومة
الإسرائيلية تقديم المساعدات الإنسانية الأساسية للسكان المدنيين أمر غير مقبول،
ويُنذر بانتهاك القانون الدولي الإنساني. ونحن ندين اللغة البغيضة التي استخدمها
مؤخراً بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية، وكذلك التهديد المتكرر بالترحيل القسري
للمدنيين الذين يواجهون دماراً يائساً في غزة. إن الترحيل القسري الدائم يُعدّ
انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني». وباختصار، فإن الثلاثة حرروا مضبطة اتهامات
بحق إسرائيل.