شهد شهر أيار 2025 تراجعًا تدريجيًا غير معتاد في سعر صرف الدولار مقابل الدينار العراقي، ما أثار موجة من التساؤلات في الأسواق المحلية. هذا الانخفاض اللافت لم يكن نتيجة ظرف عابر، بل نتيجة تراكب عوامل نقدية وتجارية وسلوكية، وحتى سياسية إقليمية.
فائض الدولار المفاجئ.. من أين جاء؟
يرى أستاذ الاقتصاد في جامعة جيهان بمحافظة دهوك، نوار السعدي، أن أحد أبرز العوامل يتمثل في ارتفاع المعروض من الدولار، ليس نتيجة زيادة في إيرادات النفط، بل بفعل تحويلات مالية من شركات أجنبية، واستثمارات غير نفطية، إلى جانب عمليات تهريب عكسي للدولار من دول مجاورة تعاني شح العملة الصعبة.
هذا الفائض خلق حالة من تشبّع السوق بالدولار، ما أدى إلى انخفاض سعره أمام الدينار.
تحولات في سلوك المواطن.. تراجع الثقة بالدولار
ويضيف السعدي أن التغيّر في سلوك المواطن العراقي ساهم كذلك في هذا الانخفاض، حيث بدأ الكثيرون يفقدون الثقة بالدولار كخيار ادخار، مقابل شعور متزايد بـ"أمان" الدينار العراقي، ما دفعهم إلى بيع الدولار وتحويله إلى الدينار أو الذهب، وبالتالي زاد المعروض من العملة الأميركية، وتراجع الطلب عليها.
تدخل البنك المركزي.. وامتصاص السيولة
يلعب البنك المركزي العراقي دورًا رئيسيًا، وفق السعدي، حيث قام بتقليص الكتلة النقدية من الدينار بأكثر من 6 تريليونات دينار خلال أشهر قليلة، في إطار سياسة تهدف إلى امتصاص السيولة.
هذا التدخل ساعد على تعزيز قيمة الدينار، وخفض معدلات التضخم، كما عزز الثقة العامة بالعملة المحلية.
تراجع الاستيراد وتبدل خارطة التجارة
عامل آخر يتمثل في انكماش الاستيراد من دول كبرى مثل تركيا والهند والولايات المتحدة، مع استمرار الاستيراد من الصين بوتيرة ثابتة. ويرجّح السعدي أن هذا التراجع يعود إما لانخفاض الاستهلاك المحلي، أو إعادة ترتيب أولويات الإنفاق، ما أدى إلى تراجع الطلب على الدولار التجاري.
العامل الإقليمي.. دور غير معلن
يُشير السعدي أيضًا إلى عامل إقليمي "صامت"، يتمثل في احتمال وجود مفاوضات غير معلنة بين طهران وواشنطن، أدت إلى تخفيف القيود المالية على إيران، ما انعكس على انخفاض الحاجة للدولار في تجارة الظل بين العراق وإيران، وساهم في تقليل الضغط على العملة الأميركية داخل العراق.
إلى أين يتجه السعر؟
رغم هذا الانخفاض، لا يؤكد السعدي أن الاتجاه سيستمر طويلًا، مبينًا أن استقرار سعر الصرف مرهون بعاملين أساسيين:
-
استمرار السياسة النقدية الحالية بثبات وصرامة.
-
الحفاظ على تدفق العملة الصعبة بعيدًا عن المضاربات والأزمات الإقليمية.
ويختم السعدي تحليله بالتحذير من أن أي خلل في هذه المعادلات قد يُعيد الأسواق إلى حالة عدم الاستقرار، مشددًا على أن الثقة لا تُبنى فقط بالقرارات، بل باستمرارها وشفافيتها.