رصدت "النهرين" تقريرا لمعهد واشنطن، قدم فيه توصيات لإعادة تعريف وتعزيز العلاقة بين العراق والولايات المتحدة من بوابة الطاقة والأمن، سيما أن العراق يواجه تحديات أمنية واقتصادية، ويسعى في الوقت ذاته إلى فك ارتباطه بمهمة التحالف الدولي، واعتبر التقرير أن الشراكة مع واشنطن تساعد العراق في تحقيق أهدافه وتخدم سياسة دونالد ترامب في كبح النفوذ الإيراني والصيني، مشيراً إلى أنه بإمكان بغداد الاستفادة من تجربة السعودية في تقليل حرق الغاز، حين بدأت الرياض تجميع الغاز المصاحب عبر تقنيات أمريكية، إلى جانب إشراك شركة KBR الأمريكية في مشروع “نبراس” للبتروكيماويات، واستئجار وحدات عائمة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من أمريكا لحين استكمال البنية التحتية المحلية.
يواجه العراق تحديات أمنية واقتصادية في وقت تسعى فيه
بغداد إلى فك ارتباطها بمهمة التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)
وإعادة هيكلة علاقتها مع الولايات المتحدة. إن الشراكة مع أمريكا في مبادرات
الطاقة والأمن قد لا تعزز فقط تلك الأهداف العراقية، بل تخدم أيضاً أهداف سياسة
الرئيس ترامب، وتواجه النفوذ الإيراني والصيني في العراق، وتخلق المزيد من الفرص
الاقتصادية، وتُسهّل جهوداً أوسع لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.
تقدم “بطيء ولكن ثابت” في مجال الغاز
تُعد العلاقة في قطاع الطاقة، بما في ذلك الغاز الطبيعي، من أهم العلاقات التي تسعى بغداد إلى بنائها مع واشنطن. فالولايات المتحدة هي أكبر منتج للغاز في العالم، وقد ساعدت صادراتها الهائلة من الغاز الطبيعي المسال (LNG) أوروبا على استبدال الإمدادات الروسية خلال حرب أوكرانيا. أما احتياطيات الغاز في العراق، وهي الثانية عشرة على مستوى العالم، فهي في الغالب من الغاز المصاحب المُنتَج كمنتج ثانوي لإنتاج النفط الخام، خصوصاً في الجنوب. ومع ذلك، لا يزال يُحرَق حجم هائل من هذا الغاز بدلاً من جمعه واستخدامه. ويُصنّف العراق من بين أسوأ خمس دول في العالم في حرق الغاز؛ ففي عام 2023، كان يحرق 1200 مليون قدم مكعب قياسي يومياً من الغاز، بينما كان يستورد 1000 قدم مكعب فقط من إيران. وفي ذلك العام، فقدت شبكة الكهرباء العراقية 5000 ميكاواط نتيجة لانخفاض الإمدادات الإيرانية، والتي غالباً ما تكون غير موثوقة. ومن الممكن أن تتكرر المشكلة نفسها هذا العام. والأسوأ من ذلك، أن هذه الواردات كانت معرّضة لخطر الانقطاع إلى أجل غير مسمى بسبب الصراع الأخير بين إيران وإسرائيل.
وبينما تأمل بغداد في الوصول إلى مستوى “صفر حرق” بحلول عام 2028، من غير الواضح كيف ستوازن بين هذا الهدف وطموحاتها في زيادة إنتاج النفط إلى أكثر من 6 ملايين برميل يومياً في وقت لاحق من هذا العقد (العراق هو ثاني أكبر منتج للنفط في أوبك). وقد أحرز العراق في السنوات الأخيرة تقدماً بطيئاً لكن ثابتاً في مواجهة تحديات الغاز، بما في ذلك الحرق، إذ يسعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى جذب المزيد من الشركات من الولايات المتحدة ودول أخرى للاستثمار في هذا القطاع. إلا أن التحديات الفنية والسياسية لا تزال قائمة، بما في ذلك التدخل السياسي، والفساد، والبيروقراطية، مما تسبب في تأخير المشاريع.
ومع ذلك، بدأت بعض مشاريع استخلاص الغاز تتقدم تدريجياً، بما في ذلك مشروع “نمو الغاز المتكامل” الضخم، الذي تقوده شركة “توتال إنرجيز” الفرنسية. يضم هذا المشروع 4 مشاريع في مشروع واحد، بما في ذلك تطوير مركز غاز أرطاوي، الذي من المتوقع أن يعالج 600 مليون قدم مكعب قياسي يومياً من الغاز المصاحب من عدة حقول نفطية في جنوب العراق. وفي يناير، أطلقت شركة توتال إنرجيز وشركاؤها، شركة نفط البصرة وقطر إنرجي، أعمال بناء أول منشأة لمعالجة الغاز المصاحب من حقل أرطاوي في محافظة البصرة. ومن المتوقع أن تعالج هذه المنشأة، وهي جزء من مشروع نمو الغاز المتكامل متعدد المصادر، مليون قدم مكعب يومياً من الغاز الذي كان يُحرق سابقاً، ليُستخدم لاحقاً في توليد الطاقة محلياً.
وقد فازت شركات صينية ببعض عقود بناء مشروع GGIP، كما تشارك بكين أيضاً في مشاريع رئيسية أخرى في قطاع الغاز في العراق، من بينها محطة معالجة غاز الحلفاية، التي بدأت عملياتها في يونيو 2024. في الوقت نفسه، تُعد شركة غاز البصرة، وهي مشروع مشترك بين شركة غاز الجنوب العراقية، وشركتي شل وميتسوبيشي، “أكبر مشروع منفرد” للغاز المصاحب في العراق حتى العام الماضي، حيث تعالج إنتاج حقول الرميلة، وغرب القرنة 1، والزبير، وهي ثلاثة من الحقول العملاقة في الجنوب.
مع ذلك، لا يزال قطاع الطاقة العراقي هشاً. ففي مايو،
فقد العراق نحو 4000 ميغاواط نتيجة لانخفاض إمدادات الغاز الإيراني، وكذلك بسبب
إنهاء واشنطن الإعفاءات الخاصة باستيراد الكهرباء من إيران في وقت سابق من هذا
العام. ويجب أن تدفع كل هذه التحديات بغداد إلى إعطاء الأولوية لحل مشاكل الغاز
والكهرباء.
الشراكة الأمنية
يتطلب تعزيز التعاون في مجال الطاقة بين الولايات المتحدة والعراق ليس فقط مناخاً استثمارياً إيجابياً، بل أيضاً أمناً مستداماً. ولكي تجتذب الاستثمارات، يجب على العراق إثبات استقراره وأمنه من خلال معالجة المشكلات المزمنة المتمثلة في تدخل الجهات الخارجية والصراعات الداخلية. وبالنسبة لواشنطن، يعني ذلك أن على بغداد أن تواصل تركيزها أولاً على مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، وثانياً على الحد من تهديد الميليشيات المدعومة من إيران (والذي قد يتفاقم إذا استؤنفت الاشتباكات بين إيران وإسرائيل).
منذ عام 2014، تمركزت القوات الأمريكية في العراق بناءً على دعوة من بغداد كجزء من التحالف الدولي ضد داعش. وبعد الهزيمة الإقليمية لداعش في العراق عام 2017، ركّزت واشنطن على تقديم المشورة والمساعدة وتمكين بغداد من مواصلة مواجهة التنظيم، خاصة عبر تبادل المعلومات الاستخباراتية وتوفير التمويل. وفي عام 2023، وبعد تحقيق المزيد من النجاحات ضد داعش، وكذلك في ظل الضغط الإيراني لتقليص النفوذ الأمريكي، بادر العراق إلى إنهاء مهمة التحالف وسعى إلى إعادة صياغة العلاقات الأمريكية العراقية على أساس ثنائي.
ومنذ ذلك الحين، تغيّرت الظروف الإقليمية بشكل جذري، حيث تزامنت أوضاع غير مؤكدة في سوريا المجاورة مع جهود إدارة ترامب لتقليص الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لا يزال بالإمكان بناء العلاقة الثنائية على المصالح الأمنية المشتركة.
لا تزال مهمة مواجهة داعش ذات أهمية حاسمة بالنسبة للعراق، وسيواصل تلقي الدعم الأمريكي. فرغم أن التنظيم بات ضعيفاً جداً، إذ لم يعلن سوى عن 5 هجمات في العراق حتى الآن في عام 2025، إلا أنه لا يزال يسعى إلى استغلال الانقسامات في البلاد. علاوة على ذلك، يواجه العراق مشكلة اكتظاظ السجون بعناصر تابعة للقاعدة وداعش، إلى جانب التزامه بإعادة جميع العائلات العراقية المرتبطة بالتنظيم من سوريا بحلول عام 2026. ويأتي كل هذا في ظل خفض التمويل الأمريكي لبرامج إعادة التوطين وتحقيق الاستقرار. ومن دون الاستثمار في هذه البرامج، ستتضرر قدرة العراق على إعادة دمج الأفراد العائدين والمفرج عنهم من السجون بشكل فعال.
بالإضافة إلى ذلك، أثّر التدخل الإيراني على اقتصاد
العراق وأمنه. فالميليشيات المدعومة من إيران تهدد بتقويض الحكومة، والإضرار
بالقوات الأمنية العراقية، واستهداف القوات والقواعد الأمريكية بشكل مباشر. وخلال
الصراع الإيراني الإسرائيلي الأخير، هددت هذه الميليشيات مجدداً بمهاجمة المصالح
الأمريكية في المنطقة إذا تدخلت واشنطن في الحرب. وبينما تسعى بغداد لبناء علاقة
اقتصادية وأمنية إيجابية مع واشنطن، يجب عليها الحد من تأثير هذه الجهات الفاعلة.
التوصيات
تزيد الضربات الإسرائيلية على إنتاج الغاز المحلي في إيران من إلحاح الحاجة إلى توسيع التعاون العراقي الأمريكي في مجال الطاقة، واستكشاف الفرص الاقتصادية غير المستغلة في قطاع الغاز. ينبغي أن تركز بعض هذه الجهود الثنائية على تقليل حرق الغاز وتطوير الحقول الغازية، كما في حقل عكّاز، وهو أكبر حقل للغاز غير المصاحب في العراق (أي غير المرتبط بإنتاج النفط الخام)، والذي تشير التقارير إلى أن شركة الخدمات النفطية الأمريكية SLB تعمل فيه حالياً. ويمكن أن تتناول جهود أخرى بعض المشكلات نفسها، مع تنويع الاقتصاد العراقي في الوقت ذاته. على سبيل المثال:
يمكن لبغداد أن تستفيد من نجاحات السعودية في معالجة مشكلة حرق الغاز. ففي السبعينيات، قررت الرياض البدء في جمع الغاز المصاحب للنفط من خلال “نظام الغاز الرئيسي”، وهو شبكة من خطوط الأنابيب تربط مواقع الغاز في جميع أنحاء البلاد. وقد ساعد هذا الجهد في دفع عجلة التصنيع في المملكة. واليوم، لا يزال هذا النظام الموسع، الذي بدأ تشغيله في أوائل الثمانينيات، يستخدم تقنيات من شركات رائدة مقرها الولايات المتحدة، وغيرها من الدول.
أشار تقرير صادر عن وزارة النفط العراقية إلى إمكانية إشراك شركة KBR الأمريكية في مشروع نبراس للبتروكيماويات، المؤجل منذ زمن، في الجنوب. ويُذكر أن الغاز المصاحب للنفط في العراق غني بالإيثان، وهو سائل غاز طبيعي يُستخدم في إنتاج الإيثيلين، الذي يُعد مادة أولية رئيسية لأي صناعة بتروكيماوية مستقبلية. وهذا مجال يمكن لبغداد استكشافه بجدية مع الشركات الأمريكية.
على المدى القريب، قد يشمل التعاون العراقي مع القطاع الخاص الأمريكي استئجار وحدات تخزين وإعادة تحويل عائمة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، حيث يسابق العراق الزمن لإنشاء البنية التحتية اللازمة لذلك في الجنوب. وبما أن الولايات المتحدة هي الرائد العالمي في مجال الغاز الطبيعي المسال، فقد تمثل هذه فرصة إضافية للتعاون.
وقد أظهرت الزيارة الأخيرة لوفد تجاري أمريكي رفيع المستوى إلى بغداد أن توسيع التعاون الثنائي في مجال الطاقة أمر ممكن. لكن نجاح هذا التعاون يتطلب أمناً واستقراراً في العراق، لا سيما في ظل المخاطر الجيوسياسية الناجمة عن الصراع الإيراني الإسرائيلي. وبشكل أكثر تحديداً:
يجب على واشنطن وبغداد الاستمرار في معالجة التهديد المتعدد الأوجه الذي يشكله تنظيم الدولة الإسلامية، والتصدي للتهديدات التي تمثلها الميليشيات المدعومة من إيران، وضمان عدم تمكن أي جهة حكومية أو غير حكومية من زعزعة الأمن الداخلي.
يجب على المسؤولين الأمريكيين والعراقيين مواصلة التخطيط وتنفيذ عملية الانتقال إلى مرحلة ما بعد التحالف. ويتضمن ذلك توقيع اتفاقية وضع القوات أو أي تفاهم ثنائي آخر يُحدد الوضع القانوني المستمر للقوات الأمريكية في العراق. إلى جانب تمكين واشنطن من مواصلة دعم العراق في حربه ضد داعش، فإن هذا الاتفاق سيُظهر لإيران وحلفائها من الميليشيات أن بغداد تُعطي الأولوية لعلاقتها بواشنطن. كما سيُظهر للمستثمرين في القطاع الخاص أن كلا الحكومتين تعطيان الأولوية لأمن العراق، مما يجعل البلاد بيئة مهيأة للاستثمار.
وبينما تسعى بغداد إلى إعادة تعريف علاقتها مع واشنطن،
فإن التأكيد على التعاون في مجالي الطاقة والأمن يمكن أن يخدم بشكل مباشر أهداف
الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني، وخلق فرص اقتصادية جديدة،
وتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط الأوسع، وتقليص المساحات غير الخاضعة للحكم التي
تستغلها الجهات المعادية في كثير من الأحيان.